التربية على المواطنة: نحو مقاربة لتحقيق التوازن المجتمعي

 التربية على المواطنة: نحو مقاربة لتحقيق التوازن المجتمعي

 

 

كتب: عبد القادر فرشوخ

 تشكل المدرسة باعتبارها مؤسسة تربوية ، فضاء اجتماعيا للتنشئة والتربية والتكوين ، ومجالا لاستنبات القيم الإنسانية الرفيعة واستدماجها كإحدى الدعامات الأساس لتشييد مجتمع حداثي، متطور، قائم على تدعيم الفكر العلمي العقلاني المنفتح على مكتسبات وقيم الحضارة الكونية.

     تستجيب هذه الرؤية – إذن – لسياق موسوم بالمعطيات التالية :

*  حصول تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية متنامية على الصعيد الدولي والوطني ، افرزها الواقع العولمي وانعكاساته على مصير الإنسانية والكون .

*  انتشار جملة من المفاهيم الإنسانية المعاصرة ، تمثل رؤية جديدة للعالم : التنوع الثقافي ، المواطنة الكونية ، التربية على حقوق الإنسان ، التربية من اجل السلام ….

* التأكيد على أهمية التعايش داخل كوكبنا الأرضي (الوعي الايكولوجي ) والعمل على زرع روح التضامن الاجتماعية دون اعتبار عرقي او ديني او لغوي او سياسي .

*   المساهمة في بناء التوجه الإنساني العالمي وتكوين أجيال الغد المتشبعة بقيم العقل وبالمبادئ الإنسانية الكونية .

1)  القرية الكونية : رؤية جديدة للعالم .

    إن التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم في سياق هندسة جيو- سياسية أخذة في التجدر ، بفعل تزايد الوسائط المعلوماتية وهيمنة الإعلام الخارجي والانسياب القوي والكثيف للمعلومات والأخبار بالياتها الأيقونية الداعمة ، تضع على عاتق الأنظمة التربوية مسؤوليات جديدة أبرزها أنها أصبحت مثل القطاعات الإنتاجية في حاجة الى جهود تحديثية للرفع من قردتها التنافسية ، لان المؤسسة المدرسية لم تعد الفضاء الوحيد للمعرفة والمساهم الأوحد في تنمية  الرأسمال الثقافي ،بل تشكلت خرائط جديدة للتكوين بفعل التكنولوجيا الحديثة للإعلام والتواصل . ضمن هذا الأفق ، يؤكد الباحث الكندي (م.بوهان ) عن أهم خصائص هذا العصر من خلال نحته لمفهوم “القرية الكونية” معلنا ، بذلك انهيار الحدود الثقافية والجغرافية بين المجتمعات الحديثة التي صارت أكثر تشابكا بفضل الانفجار المعرفي والثورة التكنولوجية .

   إن هذا الانفتاح اللامتناهي ، يقتضي – لزوما – بناء ثقافة ذاتية منفتحة لدى المتعلم ، تستحضر الانخراط في البعد التشاركي  لقضية التعليم ، حيث الأولوية للتكوين على تنمية الكفايات التالية :

  *      تنمية القدرة على الانفتاح على الذات من خلال الانفتاح على العالم الخارجي ، وهي كفاية تتعلق بإتقان اللغات الأجنبية ، بما تمنحه من إمكانية توسيع شبكات التواصل . والانفتاح على الذات والعالم الخارجي ، مرتبط أيضا بتحسين تدريس اللغة العربية كلغة وطنية مركزية مرتبطة بذاكرتنا الثقافية والحضارية وبالمقدس الديني (القران الكريم ) وبإدماج تدريس اللغة الامازيغية بكل ثرائها وغناها .

 *       تنمية القدرة على التخلص من نزعات التعصب والعنف والهوية المغلقة ، من خلال تفعيل قيم التسامح والحوار الديمقراطي والتواصل العالمي ، وذلك عبر الاهتمام بتدريس تاريخ الحضارات وحوار الأديان ، تثمين التواصل عبر الانترنيت وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة العالمية .

*     تنمية القدرة على الحوار ، وهي كفاية ترتبط بحسن هندسة الحوار ، وإجادة القدرة على الإقناع ، الأمر الذي يقتضي اكتساب الكفاية التواصلية والثقافية المرسخة للوعي بضرورات وإجراءات فهم تفكير الغير / الآخر ، والمؤمنة “لأخلاق النوع البشري” – حسب ادغارموران – بما يعنيه ذلك من تفاعلات بين الفرد والمجتمع ، وما يستلزمه من تعليم الديمقراطية والحوار الديمقراطي والمواطنة الكونية اعتبارا لكون الإنسانية قدر كوكبنا الأرضي .

2) المدرسة المغربية الجديدة : رهان التربية على المواطنة :

      لا تزال المدرسة – رغم ما يقال  عنها – ناقلة ممتازة للقيم ، إذ تعتبر المدخل الطبيعي لتشكيل شبكة القيم التي توجه سلوكات الطفل ووجدانه . فما يقدم له من أنماط التعلم ، وما يشترك فيه من أنشطة تعليمية – تعلمية ، يمتح في نهاية المطاف من المنهاج التعليمي الذي تسيج مداره الخيارات الكبرى التي تحكم مسار الأمة الحضاري ، ومن تم يستحيل على المدرسة أن تنكر مراميها في مجال التربية السياسية ، فهي مؤسسة غير محايدة / بريئة في علاقتها بالفكر الإيديولوجي المهيمن في مجتمع معين .

      ولما كانت العملية التربوية تهتم في بعض جوانبها بإعداد النشء للانخراط بايجابية خلاقة في المجتمع حاضرا ومستقبلا ، فقد صار لزاما على المدرسة أن تعتني بتطبيع النشء والشباب على القيم الديمقراطية ضمانا لإعداد أجيال معتزة بالقيم الحضارية والهوية الوطنية ومنفتحة – في ذات الآن – على الثقافة الكونية المستوعبة للأفق الرحب للمعرفة البشرية .

      بهذا المعنى ، على المدرسة إن تعي بان الطرائق التقليدية في التعامل مع الطفل ، لا يمكن أن تفضي الى اكتساب المتعلم قيم المواطنة والانتماء والاستقلالية والحرية المسؤولة ، بل أن المتعلم في ظل هذه الطرائق يواجه في حالات كثيرة “وقائع” تؤدي إلى نسف إمكانياته الذاتية وتخريب مفعولها الإبداعي لديه ، كغياب شروط الحوار ، وإبداء الرأي الشخصي ومحاولة المدرس فرض أرائه وإرغام التلميذ على الخضوع القسري لها …..وكلها مواقف وسلوكات من شانها أن ترسخ فكرة العجز الذاتي لدى التلاميذ والخضوع مستقبلا ليس فقط لسلطة المدرس بل لأية سلطة كانت ….

      إن ظهور مفهوم “الديمقراطية التشاركية ” أو ما أصبح يعرف “بديمقراطية القرب” التي معها لم يعد المواطن يفوض تدبير الشأن العام للمنتخبين ، وإنما أصبح شريكا أساسيا في ذلك . أصبح يقابله مفهوم المقاربة التشاركية على المستوى البيداغوجي. لذلك على المدرس أن يستوعب جيدا رهانات الطرائق التربوية الحديثة التي تجعل من المتعلم شريكا حقيقيا في إنتاج المعرفة ، في بناء المفاهيم ، في وضع المشاريع ، وشريكا في تدبير الاختلاف وتجاوز الاكراهات ….انه الأسلوب الفعال الذي يتيح للمتعلم تملك آليات الديمقراطية التشاركية بشكل حقيقي وعملي، وترسيخا لنفس المسعى ، فان التربية على المواطنة ، تقتضي من الإدارة التربوية إحداث فضاء داخل المؤسسة للممارسة الديمقراطية فيه يتم انتخاب مجالس التلاميذ بشكل نزيه وشفاف ، وكذا انتخاب ممثليهم في مجلس التدبير حتى يشارك في اجتماعاته كعضو كامل العضوية ، له أن يقترح المشاريع ، أن يرفض ، أن يعارض ، أو يقبل بوعي ومسؤولية ، بل أن يحتج باسم منتخبيه من التلاميذ. هذا فضلا عن إمكانية إحداث الأندية المدرسية ذات الصلة بالتربية على المواطنة مع وضعها تحت إشرافهم، مثل نادي المواطنة، نادي التربية على حقوق الإنسان . إن هذا الدور التربوي للمؤسسة التعليمية ، هو ما يمكن أن يؤصل في شخصية الطفل تلك المبادئ التي تحصنها وتحميها من التطرف والانحراف ، فيصير مواطنا صالحا ، ليس بينه وبين قيم مجتمعه أي صدام أوتناقض أو اغتراب .

  3: على سبيل الختم :    من المؤكد أن إدماج هذا التصور في سياق الممارسة التربوية ، لا يمكن أن يتحقق بمدرسة تشتغل بأساليب وأدوات تقليدية ، وبرامج غير مواكبة للتجديد ، فالتحديث لا يتم إلا عبر مدرسة حديثة فعليا ، وبتكامل تربوي عقلاني بين قيم الحداثة والعلم واحترام كرامة الإنسان .

     إنها بدائل تجعل من “الإنسان” محورها ، وتؤمن بقدرة المتعلم على الابتكار والمبادرة والاستقلال الذاتي والحرية المسؤولة والمشاركة في تغيير المجتمع نحو الحداثة والديمقراطية والتعدد ضمن الإجماع المتفاوض عليه ، أي ضمن ما يسميه الفيلسوف الألماني “هابرماس” بالمجتمع التواصلي التداولي الذي لا يقصي أية قوة اجتماعية ، فينتهي بذلك العنف والتعصب والهوية المغلقة .

 

                                                            (*) عبد القادر فرشوخ

                                                    مدير مجموعة مدارس موسى بن نصير          

                                    نيابة شفشاون      

مشاركة المقالة
اترك تعليقاً