الحكامــــة الرشيـــدة للمنظومة التربوية الوطنية: سؤال الكينونة و الهندسة التنموية
ذ. عبد القادر فرشوخ (*)
1- التربية و التعليم: سؤال الكينونة.
ارتبط نجاح عدد من التجارب التنموية في كثير من البلدان (ماليزيا، سنغافورة، كوريا، التايوان، اليابان…) بقدرتها على تأهيل مواردها البشرية، أكثر مما ارتبط بتوفرها على ثروات هائلة. ذلك أن رهان التنمية الدائمة و المستديمة هو رهان على الفعل البشري بامتياز.
بهذا المعنى، يطرح سؤال الاستثمار (Investissement) في “الثروة البشرية” حيث يغدو التفكير في مجال التربية و التكوين هو تفكير في الأسئلة المشتركة بين الوجودي و التنموي، و تأمل في علائقهمـا المتداخلـة و المتشابكة على مستوى البحث في أهم معالم التحولات التي بدأ العالم يشهدها منذ منتصف القرن الماضي، و ما ارتبـــط بهـا من تداعيات ما يعــرف الآن بالنظام الاقتصادي العالمــي الجديــد الذي تهيمن أفكــاره و مؤسساتــه و استراتيجيته على قواعد الاقتصاد الحر، و المنافسة الشرسة العابرة للقارات، و الانفجار المعرفي. و العولمة الزاحفة بقيمها و إكراهاتها و “بثقافتها السياسية الكونية الجديدة”.
ضمن هذا السياق -إذن- تتأكد صحة تلك المقولة الشهيرة لتوينبي”: “إن تاريخ المجتمعات البشرية، هو تاريخ المنافسة بين التعليم و الكارثة” لنربط بينها (مقولة تونيبي) و بين المخطط الأمريكي الذي يعقد قرانا متينا بين التعلم و أمن أمريكا و هيمنتها عالميا. و هذا ما كشف عنه بجلاء تقرير حديث للجمعية الأمريكية لتقدم العلم ورد فيه: “إن مستقبل أمريكا و قدرتها على مواصلة حيويتها الاقتصادية و بقائها آمنة في عالم تمزقه العداوات يفرض علينا أن نكسب “حرب التعلم” كشرط يضمن لنا تفوقنا في كل الحروب الأخرى، و هناك في الولايات المتحدة من يطالب بمشروع في حجم خطة “مارشال” لإنقاد المدارس الأمريكية”.
أكيد – إذن- أن التعليم و التكوين و البحث العلمي من المظاهر الإستراتيجية للحفاظ على كينونة ووجود الأمة و ضمان استمراريتها، حيث تكمن قوة الأمم في حضورها العلمي و ما راكمته من معطيات و تجارب في هــذا الحقل، و تنهض القـــوة الاقتصادية و العسكرية و السياسية على أســاس علمي تؤســس له التربية و التعليم و التكوين و البحث العلمي. إن إعادة التفكير في منظومة التربية و التكوين، أصبح مطلبا أساسيا، لأنه تفكير في المآل و الوجود، ضمن عالم انفجار المعرفة و الثورة التكنولوجية، علما أن رهـان المغرب في قوة تعليمه العمومي بوصفه استثمارا مستقبليا لتأهيل الرأسمال البشري، و من ثمة، فإن أسئلة عديدة تطرح على مهندسي السياسة التعليمية الوطنية و منها:
ü هل التخطيط التربوي منخرط في فهم و تشخيص اختلالات المجتمع بشكل دقيق؟
ü على أية دعامة سنؤتث البعد المستقبلي للتعليم في تخطيط مستقبل مواطن الألفية الثالثة، و ما هي القناعات التي ستواجهنا في تكوينه؟
ü أي إنسان/ مواطن نريد؟ مواصفاته، قدراته، مدى إسهامه في المشروع المجتمعي، و لأي مجتمع نريد هذا المتعلم؟
ü كيف يمكن أن نتعاطى مع قطاع حيوي و استراتيجي، يروم الاستثمار في العنصر البشري بروح استعجالية؟
ü هل الفشل في إنجاح الإصلاح التربوي مرتبط فقط بالموارد المالية و بمنهجية تنفيذ الإصلاح كما يؤكد ذلك البرنامج الإستعجالي؟ أم أن الفشل لصيق في جزء كبير منه بالعنصر البشري الذي يتحمل مسؤولية تدبير الشأن التربوي؟ و لماذا لا يتم تحريك المسؤولية التقصيرية ضد كل من ثبت في حقه التهاون في التعاطي الإيجابي مع الإصلاح التربوي؟
2- الحكامة التربوية: و الهندسة التنموية.
لا أحــد يجادل اليوم في محورية التربية و التكويـن في التنمية المستدامة و المندمجة، فقد اخترقت التربية و التكوين كل مجالات العمل الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي، حتى صارت لازمة الوعي و الرقي و التحضر في سياق اللحظة الحضارية التي نعيشها، لحظة “العولمة الزاحفة” و ثقافة النظام الكوني الجديد.
إننا نلح الآن مجتمع المعرفة، و نعيش ثورة لا ندرك طبيعتها و لا نتحكم فيها بفعل تزايد الوسائط المعلوماتية و التدفق القوي للمعلومات، فقد انتقلنا من مجتمع إقطاعي قائم على ملكية الأرض و التي تهب صاحبها السلطة و السيادة، ثم إلى المجتمعات الصناعية المستندة على ملكية الرأسمال و على سلطة الرأسماليين، ووصلنا أخيرا إلى مجتمع المعرفة الذي يتطور بسرعة لافتة بواسطة التكنولوجيا الحديثة للإعلام و التواصل، حيث الاتساع اللا متناهي للفضاء “السيبرنيتيقي” و الذي تعد الشبكة العنكبوتية أحد تجلياته الرئيسية، و امتدادا لهذا المعنى أصبح المتحكـم في المجال العلمي و المعرفي هو صاحب السلطة و الريـادة، أما الأمم التي لازلت غارقــة في الجهل و التخلف، فإنها ستهمش خلال القــرن 21. ذلك أن حظــوظ الانضمام إلى مجتمــع المعرفــة والاتصال و التنمية و الحداثة، لا يمكن أن يمر إلا من مسار التربية و التعليم و التكوين، لأنــه المسار الطبيعي لكل رافد إنمائي. فـفي سياق مخــتلف التحولات، تمثل المعرفة حســب (Edgar Morin) الشرط الأساسي لتحقيــق التنمية و التغيير و التطـــور، و أن الطاقــة البشريـــة لكل منظمة أسـاس الإنجـاز (La Performance).
من داخل هذا الوعي، يطرح على الدولة سؤال النهوض بالمدرسة العمومية خاصة عندما نجد الفاعلين الاقتصاديين غير مهتمين بالمدرسة، و لا تندرج أصلا ضمن انشغالاتهم، مع ضرورة الحرص على إيجاد تلاؤم ما بين النظام التربوي و المحيط الاقتصادي في الوقت الذي ما تزال فيه الجماعات المحلية بعيدة جدا عن اعتبار التربية و التعليم شأنا عاما محليا (من الملاحظ أن الجماعات المحلية لا تسهم إلا بــ 0,5% من موارد قطاع التربية الوطنية). إن الأمر يقتضي النظر إلى التعليم كقطاع استراتيجي للاستثمار في الثروة البشرية من أجل تأهيل مخزونه من الكفاءات العالية الإنتاجية و القادرة على المنافسة في السباق نحو الأسواق الدولية و خلق فرص الشغل للجميع من أجل تقليص البطالة و الفقر لتثبيت السلم الاجتماعي. علينا – إذن- أن نحول القضية التربوية إلى قضية مجتمعية شمولية، و أن نعمل على تعبئة المجتمع بكل فعالياته و هيئاته و مؤسساته لكي يدعم المشروع التربوي، و لكي يجعل منه محور اهتمامه، لذلك يجب عند وضع أي تخطيط تربوي تأكيد العلاقات المتبادلة بين التربية و بين منظومات النشاط المجتمعي الأخرى، و بينها و بين التنمية عامة مع الحرص على وسيمها كلها بالشمول و التكامل.
إن ترابط الظواهر الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية في المجتمع، و اعتماد بعضها على بعض، و ضرورة مشاركة المواطنين جميعهم في النهوض بأعباء مجتمعهم في إطار التعاون و المساواة يعتبر الصيغة الناجحة و المضمونة لتحقيق تقدم المجتمع و رفاهيته. و تدعيما لهذا المنحى، تأتي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية معتبرة المدرسة و بالتالي المنظومة التربوية التقويمية رافعة أساسية في محاربـة الأمية و مواجهة الفقر و التهميش و الإقصاء و فك العــزلة الثقافية و المعرفية عن هوامــش المدن و باقــي المناطـــق النائيـة بالبــوادي و القرى المغربية. إنها –المبادرة- ثقافة جديدة للتنمية، تتغيا تجديرا عميقا و تدريجيــا لدولة حديثـة و اجتماعيــة و ترابية بالمغرب، تستند أساسا على الديمقراطية التشاركية و المواطنة النشيطة و المبادرة الخاصة و المساواة في حظوظ الولوج للتنمية.
3- خاتمة مفتوحة:
من المؤكد، أن الافتقاد لمعايير الحكامة الجيدة (La Bonne Gouvernance)، المشيدة على القواعد الرشيدة (ضبط المسؤولية و المحاسبة عليها بوضوح)، شكلت إحدى العلامات الدالة على الإختلالات في تدبير المنظومة التربوية الوطنية، على مستوى نجاعة التنفيذ و تعثر الإنتظارات و أجرأة و تفعيل الإصلاحات.
إن المنطق الصارم للحداثة و العولمة في عالم متجدد باستمرار، عالم الألفية الثالثة المبني على تنافسية “داروينية” شرسة، لم يترك لنا من خيارات سوى إعادة صياغة إستراتيجية جديدة ناجعة مؤسسة على وعي عميق بمفهوم الحكامة الجيدة داخل مجال التربية و التكوين، و هي حكامة مبنية على مفهوم نسقي يتفاعل بنيويا و وظيفيا مع باقي القطاعات السوسيو- مهنية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية، و يشكل قطاع التربية و التكوين إحدى العناصر الرئيسية لهذا النسق، بوصفه قطاعا استراتيجيا يمس في العمق صياغة شخصية التلميذ/المواطن، و يبني المجتمع، و يحقق التنمية، و يصنع أسس مستقبل المغرب الذي نتمناه.
(*) مدير مجموعة مدارس
موسى بن نصير
نيابة شفشاون