تقديــــم
يمكن اعتبار مبادرة “نتلا قاو فوزان”، في نسخها الثالثة، مبادرة للم شمل الوزانيات والوزانيين، حيث جاء نداء مؤسسيها من أجل الاتصال وليس الانفصال. ركزت المبادرة خطابها، بناء على المتابعة الميدانية، على الدعوة لصلة الأرحام بين أبناء دار الضمانة ومدينتهم باعتبارها أرض الميلاد والنشأة، أو الإقامة. فالهدف الأساسي، حسب موقع المبادرة على “فيسبوك”، هو البوح جهرا بعشق وزان وباديتها، في وقت يراد للتراب أن يصبح غبارا متطايرا ويختفي ويتلاشى كما هو الحال مع العالم الافتراضي!.. وانطلقت أشغال النسخة الثالثة من هذه المبادرة أيام 21، 22، و23 يونيو 2024 تحت شعار “حب وزان يجمعنا ومستقبلها يعنينا”، تعبيرا عن روح الانتماء، لكن بمسؤولية اتجاه المدينة والإقليم والرهان على تنميتهما سياحيا. فوزان، كما هو معلوم، ارتقت لعمالة سنة 2009، وبهذا الوضع المتقدم استعادت، في نظر المتتبعين، الروابط العضوية بباقي ساكنة الجماعات الترابية المحيطة في علاقات ليست إدارية – وظيفية فحسب، لكن حتى وجدانية. وانبثقت بالتالي أسئلة قديمة وأخرى مستجدة حول التنمية المحلية سبق وأن قمنا بتدوين البعض منها، في ورقة نشرتها مشكورة الجريدة الإلكترونية هسبريس يوم 8 نونبر 2022 تحت عنوان “مدينة وزان والبحث عن الاعتراف”. وكان من بين أهداف تحريرها هو معرفة من هم الوزانيون؟ هل هم المتواجدون داخل المدار الحضري؟ المنتمون للإقليم؟ أو المتحدرون من هذه الربوع والمتواجدون داخل تراب المملكة المغربية، وخارج الحدود من الأصول والفروع. تأكد من خلال مبادرة “نتلا قاو فوزان” أن عشاق دار الضمانة والبوادي المحيطة بها كثر؛ من مغاربة وأجانب، ومن ديانات وملل ونحل مختلفة. وتبين أن من بين الفاعلين والقائمين على هذه المبادرة وزانيون شباب مقيمون خارج المغرب وداخله، ومنهم من هو قاطن بالمدينة. وانبثق خلال أشغال النسخة الثالثة سؤال الكينونة العميق المتعلق بإشكالية إخراج مدينة وزان من حالة الركود الذي تعيشه، مع العلم أنها مدينة متوسطة، عاصمة لإقليم فتي منتم حديثا إلى جهة طنجة – تطوان – الحسيمة، ويتوفر، بالمناسبة، على مؤهلات طبيعية، تاريخية، وثقافية. فإقليم وزان موجود جغرافيا خارج محور الساحلي الممتد من طنجة إلى الدار البيضاء الكبرى، والمستقطب لـ 70% من الأنشطة الاقتصادية، والسكان. ورغم هذه الحتمية الجغرافية، فإقليم وزان يبحث، منذ نشأته، عن مكانة بين باقي الأقاليم، وهذا المنعرج الوجودي -إن جاز التعبير- يتطلب من الكيان المحلي وفعالياته السياسية والمدَنية، وباقي النخب، إقامة الروابط بين الأفكار والأفعال، وتعزيز التعاون على الأرض. وأقدم هنا بعض الأفكار من وحي المتابعة لمبادرة “نتلا قاو فوزان”، مساهمة في النقاش حول موضوع التنمية المحلية بوزان لأن السياسي في حاجة كذلك لكل ما هو نظري بحسب تعبير هنري لوفيفر في مؤلفه (الحق في المدينة – 1972).
ربط الأفكار بالأفعال
فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحسم في متغيرة “من نحن؟” بالجهر بحق الانتماء للمدينة وللإقليم معا، فالاستراتيجية التنموية تصبح لها رؤية ترابية أوسع تتحدد طبعا انطلاقا من مقومات وإكراهات الإقليم كوحدة ترابية، وتستند للفرص الكثيرة التي يتوفر عليا، مع ضرورة تجنب التهديدات التي بات يواجهها في ظل المنافسة بين الجماعات الترابية الأخرى. وبالاعتماد على الأبحاث الجامعية في المغرب وخارجه، يمكن تحيين الركائز الاستراتيجية التنموية المحلية بالاعتماد على دعائم أخرى تراعي النماذج الناجحة على المستوين الوطني والدولي، والانفتاح على خبرات من دول البحر المتوسط بالخصوص تجارب إسبانيا وإيطاليا. غير أن استحضار مبدأ التضامن بين الوزانيين المتواجدين داخل الإقليم وخارجه يفرض نفسه. وفي هذا الباب، لا بد من الإشارة إلى أن الإقليم كتراب يتسع للجميع، فقبل أن نسكن فيه فهو يسكن فينا وفي صدور غيرنا. ويتسع الإقليم، والحالة هذه، لجميع الأفكار ولجميع المبادرات شريطة الانسجام مع روح وزان كمرجعية تخلص للروح، وللضمان، يعزز هذا الاختيار الموروث الثقافي الخاص والطبيعي الفريد الذي تتميز بهما المنطقة. إن مدينة وزان مدينة صغيرة الحجم (59606 نسمة، بحسب الإحصاء العام للسكان والسكنى، 2014)، ولكنها شامخة بدورها الريادي كحرم، لعبت دورا في إقامة السلم، ولعبت دورا كوسيط في حل النزاعات؛ فالضمان، فكرة متنورة سابقة للعصر.
تحتم هذه المعطيات على جميع الفاعلين أخذ بعين الاعتبار معاني الاتصال، واللقاء، والتضامن، والضمان، والتصوف…. وهذه المفاهيم إذا ما تعمقنا في دلالتها يمكن أن تلهم الفاعلين في تعزيز الهوية بالتأسيس لتصور تنموي محلي يثمن الموروث الثقافي والطبيعي، ويستلهم “الاقتصاد الأخضر”، و”الاقتصاد الكربون الدائري”، تجنبا للحركات الانتاجية الخطية على قلتها والتي تؤثر سلبا على البيئة، كما هو الحال مع مخلفات مطاحن الزيتون التي تحتاج لإعادة تدوير مخلفاتها. فالمفتاح البيئي “clé verte” من شأنه أن يدخل المدينة والإقليم في علاقات اقتصادية جديدة دائرية سواء بالاستفادة من مبادرات وطنية رائدة حفاظا على الرصيد الغابوي، مع تشجيع التشجير، وبالتالي التأسيس لسياحة بيئية مسؤولة نموذجية. ويمكن لإقليم وزان أن يربط في هذا الشأن علاقات تعاون مع منظمات دولية كمنظمة الأمم المتحدة وبالضبط برنامجها الإنمائي، وما يمكن أن يوفره من إمكانيات لتوسيع قدرات دار الضمانة على تصميم مشاريع التنمية المحلية وتنفيذها وتقييمها.
وبالتالي، فالإمكانيات المالية للمدينة ولباقي الجماعات الترابية بالإقليم ضعيفة، وما عليها والحالة هذه إلا القيام بتشبيك العلاقات مع الفاعلين السياسيين، الاجتماعيين، والاقتصاديين، داخل وخارج المدينة والإقليم للرفع من قدراتهما والمساهمة بداية في تعبئة مواردهما البشرية، والرفع من قدرات ومهارات العامليين سواء بالجماعات الترابية، وممثلي الجمعيات المدنية عبر تكوينات وورشات عملية، دون إغفال تكوينات للشباب بما يساير الخطة التنموية في ميادين السياحة، والصناعة التقليدية، والثقافة. لا يمكن تحقيق التنمية في ظل قلة الامكانيات المالية، إلا بنهج استراتيجية تضامنية “par truchement”، ورابحة بأقل التكلفة.” à” moindre coût
التصور التنموي بأقل تكلفة ممكنة
التصور التنموي بأقل تكلفة يفرض نفسه على واقع المدينة وباديتها، ونجد له امتداد تاريخي بحيث كانت السلطة المركزية تفوض للمدينة القيام بتدبير العلاقة مع القبائل ببسط آلية “Faire-Faire” (انظر هنا النتائج التي توصل إليها الباحثان بياتريس هيبو ومحمد الطوزي في مؤلفهما “نسج الزمن السياسي بالمغرب: مخيال الدولة في عصر الليبرالية الجديدة، 2020”)؛ وبالتالي يمكن في الزمن الراهن للاستراتيجية التنموية أن تكون في إطار الصلاحيات الواسعة التي خولها القانون المغربي للجماعات الترابية والقانون التنظيمي رقم 113-14 المتعلق بها (7 يوليوز 2015)، والذي، حسب المادة 149 “يمكن للجماعات، في إطار الاختصاصات المخول لها، أن تبرم في ما بينها أو مع جماعات ترابية أخرى أو مع الإدارات العمومية أو المؤسسات العمومية أو الهيئات غير الحكومية الأجنبية أو الهيئات العمومية الأخرى أو الجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة اتفاقيات للتعاون أو الشراكة من أجل إنجاز مشروع أو نشاط ذي فائدة مشتركة لا يقتضي اللجوء إلى إحداث شخص اعتباري خاضع للقانون العام أو الخاص”، وذلك في انسجام مع احتياجات الجماعات الترابية ومقوماتها الطبيعية، والتاريخية، والاقتصادية، وطابعها الصوفي الضامن لحرمة الغير. وفي هذا الجانب يمكن طلب الدعم من منظمات دولية للقيام بجرد للموروث المادي واللامادي والطبيعي الذي يتوفر عليه الإقليم وتصنيفه وفق ضوابط ومعايير علمية متعارف عليها. سيكتشف الوزانيون وغيرهم مع هذا الجرد الإمكانيات المهمة التي يزخر بها الإقليم، بتنافسية قل نظيرها على مستوى البحر المتوسط، سواء في جودة الزيت، والتين، والنسيج، خصوصا جودة الجلابة الوزانية، وكذلك جودة الهواء. يمكن للهواء كمجموعة من الغازات المشبعة بالأحراش والنباتات العطرية والطبية والمصفى عبر الأودية والجبال والتلال أن يكون عنصرا حيويا من عناصر جودة الحياة، فيأتي لاستنشاقه الزائرون من مختلف بقاع المعمور؛ فهل الإقليم يتوفر على طاقة إيوائية لاستقبالهم الآن؟ فالإجابة يعرفها الجميع. بالعودة لمؤلفنا (أب في الذاكرة، 2021، ص.223-224): “فالمنطقة تعرف مخاضا عسيرا والانتظارات كبيرة بمتطلبات لدعم البنية التحتية الكفيلة بتسهيل ربط غرب المغرب بعمقه الترابي. ظهور بعض المقاولات المتخصصة في ما هو محلي قد يجلب الزوار الباحثين عن جودة الغذاء الروحي والمادي وعن مقومات التنوع البيئي. ويمكن للدولة أن تجعل من مثل هذه المناطق الفرصة لخلق سياسة اقتصادية عمومية متضامنة تبنى على التوفيق بين تشجيع الاستثمار في المحاور الجذابة على الساحل الأطلسي وتفعيل جوهر المسؤولية الاجتماعية بتحسين الخدمات الصحية والتعليمية بالمجالات الداخلية الهشة”.
إذا كانت هذه الورقة تبدو طوباوية، حالمة، غير واقعية، فلأن هذا المقال من وحي المقام، من وحي تربة روحانية بطبيعتها وصيرورتها عبر الزمن، وتلك هي فطرة أبنائها المكتسبة كذلك… وحتى أكون موضوعيا فوزان -مثل الظواهر الحضرية في كل بقاع العالم- تحتاج لطوبا جديدة مؤسسة، كما يقول بلفقيه محمد (الجغرافيا القول عنها والقول فيها: المقومات الابستيمولوجية، 2002)، يستفاد منها لإحياء القدرة على النهوض وإبداع نموذج حضري، على الأقل تحتاج بشكل ملح جدا وفي هذا التوقيت بالضبط لسردية جمعية ” récit commun”…. هذه السردية يمكن العثور عليها في المخيال الجماعي….. فتحقيق التنمية الترابية يمر عبر تعبئة المخيال الجمعي. تبدو هذه الخلاصة مستعصية على الهضم ومبهمة، ومستفزة في زمن التحديث والرقمة….!!! إلا أن السردية الجماعية هي تلك القوة المحركة التي تجعل الشغف بالانتماء للتربة أقوى مغذ، وإن غاب تحولت المدينة لتجمع من الإسمنت بدون روح. نأتي بالحديث عن السردية “récit” في هذه الورقة كلحمة اجتماعية، وكطلب الوصل بين القول والفعل، وكمحفز عند صناعة القرار، وكمنهج لتعبئة الفاعليين كانوا سياسيين اجتماعيين أو اقتصاديين…. أي أن هذه السردية بمقدورها أن تدفع الفاعل للفعل كما يقول الفيلسوف الكندي أنطونيو كالكانيو “Antonio Calcango”.
وبالتالي فهذه السردية النابعة من الوجدان الجماعي يمكن أن تكون نداء للفاعل وللزوار تدفع الأول للقيام بالفعل، ويستجيب لها الثاني بغاية زيارة المدينة وباديتها وخوض تجربة فريدة من نوعها”expérience “exceptionnelle عند الاحتكاك بتربتها ومخالطة أهاليها…. لأن وزان مطالبة مع تبني السردية الجماعية بإنجاز مشاريع خلاقة مثل إعداد دور الضيافة انطلاقا من الأحياء والمداشر وتشبيك العلاقات؛ فوزان في كلمة واحدة هي النسيج، هي الرقعة، هي الجلابة بخيوط صوفية تنجز إلى اليوم في إطار علاقات عضوية مترابطة ومتضامنة “Solidarité organique” .
المنعرج التراثي أهميته ومنزلقاته
إن الرهان على الموروثين الثقافي والطبيعي يمكن لهما من جلب الزوار لإقليم وزان وبالتالي النهوض بالتنمية السياحية إذا ما تعززت البنية التحتية وبادر المستثمرون الخواص لإقامة المشاريع المرتبطة بالاستقبال وإيواء السياح، إلا أن الرهان يستدعي إرادة محلية، وطنية، ودولية لحماية هذا الموروث والاعتراف به مع جرد مكوناته المادية واللامادية، والطبيعية، لأنه إرث للبشرية جمعاء؛ بما أن المنطقة لها خاصية “تجمع الحضارات Lieu de rassemblement des civilisations” في احتكاكها بثقافات البحر المتوسط المتنوعة قديما وخلال العصور الوسطى والحديثة.
تثمين الموروث الثقافي يعني ضمنيا، كما تقول الباحثة فرانسواز شويي في مؤلفها حول “رمزية التراث” (Allégorie du patrimoine, 1996)، احتضاره، واختفاؤه من الحياة اليومية، وبالتالي دخوله للمتحف. وعليه تستدعي الرغبة في تسويقه على نطاق واسع استحضار بعض الجوانب السلبية للسياحة الجماعية “Tourisme de masse”، بحيث ترتفع الأصوات في مدن مجاورة بالمغرب وخارجه، بشفشاون، برشلونة، ومرساي، على سبيل المثال لا الحصر، مطالبة بمحاربة التأثيرات السلبية لهذا النوع من السياحة الذي أدى لإزعاج الساكنة (مثال ضجيج الدراجات النارية بالمدينة العتيقة لمراكش، وشفشاون)، وأفضى لرفع أثمان العقار، وإفراغ المدن العتيقة من ساكنتها الأصليين تحت وقع تشييد دور الضيافة، جراء ما بات يعرف بظاهرة “Gentrification” كحركية استقطاب المدن العتيقة للاستثمارات الداخلية والخارجية وطرد الساكنة نحو الضواحي، وتصبح هذه المدن فجأة مسارح مفتوحة بدون روح.
تحتاج وزان الطموحة وباديتها، أمام هذه الإكراهات وأخرى نجهلها، لمجتمع مدني قوي ولجمعيات بإمكانيات كبيرة للمساهمة مع باقي الفاعلين السياسيين والاقتصاديين في تحقيق نقلة نوعية تعيد دار الضمانة للواجهة كما فعلت مدن أخرى على سبيل المثال مدينتي الصويرة وشفشاون بالمغرب وحاضرة ماطيرا بإيطاليا. وأبانت هذه التجارب وأخرى بأن القطاعات الحكومية، والمنظمات الدولية تنتظر تبلور الدينامية المحلية لبسط يدها وتمويل المشاريع التي تدخل ضمن أولوياتها الحفاظ على البيئة (مثال الصندوق الأخضر للمناخ، لمنظمة التغذية والزراعة، 2020)، والحفاظ على الأنساق الإنتاجية التقليدية كالتغذية المتوسطية، والنسيج، والمحميات المعترف بها محليا ودوليا والمشاهد الطبيعية، ويمكن لهذه المشاريع إن رأت النور أن تشكل قاطرة نحو تنمية سياحية إيكولوجية مسؤولة.
خلاصة
تعتبر الدينامية الاجتماعية بوزان حقيقة، فمبادرة “نتلا قاو فوزان” استجاب إليها الكثير، وشهدت متابعة إعلامية من طرف القنوات الرسمية الوطنية والوسائط الاجتماعية. وتزامنت نسختها الثالثة مع عدة إنجازات حققها شباب المدينة على المستوى الرياضي، بفوز فريق شباب أولمبيك وزان لكرة السلة سيدات بدرع البطولة الوطنية للقسم الثاني لموسم 2023-2024، وفوز المركز الرياضي الإمام مالك بالبطولة الوطنية لكرة السلة إناث برسم الموسم الدراسي 2023-2024، وتحقيق فريق الترجي الرياضي لكرة اليد الصعود للقسم الممتاز.
إقليم وزان يستقبل رغم مواسم الجفاف المتكررة تساقطات مطرية تغذي سدين كبيرن (الوحدة ووادي المخازن)، ويمكن لإقليم وزان أن يكون مصدرا للثروة لساكنته ولباقي المدن إذا ما توفرت الرؤية الواضحة والاستثمارات الكافية لخدمة المجال والإنسان والوطن. ونختم بقول الشاعر محمد القباج في حق دار الضمانة:
هذا محل الأمن والإحسان *** هذا الذي يدعى بدار وزان
هذا مكان قد سما فخرا على *** جل البقاع وسائر البلدان.