زهير الركاني
لم يعد خافيًا على أي متابع للشأن الإقليمي أن ما يجري اليوم في الشرق الأوسط يتجاوز الحسابات الجيوسياسية التقليدية. فالتصعيد بين إsرائيل وإيران، وما يصاحبه من تدخلات عسكرية أميركية بعد اشهر فقط من انتخاب دونالد ترامب وتدميره للمنشآت النووية الإيرانية دون العودة حتى إلى الكونجرس ، لا يمكن عزله عن خلفية عقدية صلبة، تحكم سلوك الفاعلين الأساسيين في هذا النزاع.
ما يحدث ليس مجرد نزاع على مناطق نفوذ، أو صراع مصالح بين قوى إقليمية، بل هو حرب عقيدة، تُقاد بدافع إيماني لا يخفي نفسه، بل يُعلن عنه صراحة في أدبيات التيارات السياسية والدينية المتطرفة في كل من واشنطن وتل أبيب.
في الولايات المتحدة، تحكم التيار الإنجيلي المسيحي الصهيوني قناعة راسخة بأن نهاية العالم باتت وشيكة، وأن تمهيد عودة المسيح المنتظر يستوجب تحقيق مجموعة من العلامات، أهمها بحسب معتقدهم تدمير المسجد الأقصى، وبناء الهيكل الثالث مكانه، ثم تهجير الفلسطينيين من أرضهم لتبدأ معركة هرمجدون الفاصلة حيث يُفنى فيها الشر بما في ذلك اليهود أنفسهم، ليظهر المخلص.
هذه الرؤية لم تبقَ حبيسة الكتب الدينية أو الكنائس الإنجيلية، بل أصبحت سياسة دولة، تجسدت بشكل واضح خلال فترة حكم دونالد ترامب، الذي لم يُخفِ في أكثر من مناسبة إيمانه بأنه مبعوث إلهي لتنفيذ المهمة . قراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس واعترافه بها كعاصمة موحدة لإسرائيل لم يكن قرارا دبلوماسيًا عابرا بل وفاءً لعقيدة دينية تستبطن الوعد الإلهي.
أما في إسرائيل فالصورة لا تقل وضوحًا. اليمين التوراتي المتطرف ممثلًا في شخصيات مثل نتنياهو وبن غفير وسموتريتش يعتبر أن وجوده السياسي والتاريخي مستمد من نبوءة سفر التكوين حيث يقول الرب لإبراهيم: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات. هذه القناعة اللاهوتية تُحول المشروع الصهيوني من مشروع استيطاني إلى رسالة إلهية مقدسة، تُنفّذ بالحديد والنار.
أمام هذا التحالف العقائدي بين الصهيونية اليهودية والإنجيلية المسيحية، تصبح فلسطين بكل مآسيها مجرد تفصيل ضمن نبوءة كبرى، وتصبح الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني عقبة في طريق الخلاص ما يجعل الحديث حتى عن حل الدولتين، أو أي تسوية سياسية عادلة يؤمن بها غالبية المجتمع الدولي ، ضربًا من الخيال.
والأسوأ من ذلك، أن أي حرب قادمة بين إسرائيل وإيران ستكون في أعين هؤلاء جزءا من هذا السيناريو الإلهي وليست مجرد معركة بين دولتين. ولهذا، فإن مآلات الصراع ليست محكومة بمنطق الردع أو ميزان القوى، بل بما يُعتقد أنه مشيئة الرب، وهذا ما يجعل المنطقة مفتوحة على سيناريوهات بالغة الخطورة.
إننا أمام صراع يتغذى على نبوءات توراتية محرفة تسنده قوى دولية تملك القرار والسلاح، وتمنحه شرعية دينية لا نقاش فيها داخل دوائرها. ولهذا، لا يكفي أن نحلل ما يحدث بمنطق العلاقات الدولية فقط، بل لا بد من فهم الخلفية العقائدية التي تجعل من السياسة أداة في يد الإيمان الأعمى.