من الأجيال التي عاشت بالقرية والمدينة من لا زالت تتذكر حكايات من رحلوا عنا وحديثهم الوجداني الشجي عن الوقت و”موالين الوقت”. تقول جدتي لجارتها رحمة استعداداً لطبخ الخبز في الفرن: “….وصل ظل سقف البيت للحجرة المعلومة [أي الصخرة]…آذان العصر سيرفع بعد قليل…”. هكذا كانت تجري الاستعدادات سواء للصلاة، أو لإحماء الفرن “الخباز”، ولأغراض أخرى. تحمل الجارة رحمة رزمة “زدمة” من الحطب اليابس المصصف بعناية بجوار منزلها على شكل طبقات “فشقار”، وتلتحق بالجدة عصراً للطبخ المشترك. جرس المدرسة لا نسمعه من البيت إلا ناذراً عند هبوب رياح الشرقي. يدلنا الظل، عند وصوله لعتبة الباب، باقتراب موعد العودة للمدرسة بعد الظهر. في أيام المطر والغيوم نلتمس الوقت من حركة مرور الرفاق القادمين من دواوير مختلفة. في هذا الزمان من القرن الماضي، تُضبط الساعة عقاربها على الأذان أولاً، وعلى تحركات الظلال والأنوار نهاراً، وعلى ضوء الكواكب والنجوم ليلاً. تحس بالوقت كموعد للصلة بالخالق، وكفرصة للقاء مع الآخر، للحوار مع الطبيعة ومع نواميسها في التجلي وفي ما تخفيه من أسرار.
نتذكر جيداً تفاصيل الشمس المتحركة وهي تقطع سماءنا بين الجبال مخترقة بأشعتها غرف النوم والحقول والقلوب، منها نستخلص توقيتاً ينفعنا، ومن الهلال نستنبط بشارة خير تفرحنا، بحيث تنثر النسوة في اتجاه مطلعه أزهاراً وربيعاً. كما أن الديك بصيحاته تصير منبهاً، والطيور بقدومها فصولاً. التين ننتظر إطلالته كفاكهة شهية تربط ما بين فصلين، والليل والنهار يسبحان في الأذهان سرمدياً لا ينتهي. لكن دورانهما الأقرب لإدراك من كانوا بيننا بالأمس ورحلوا في صمت. تأتي طيور الخطاف مَرِحة تَطير بيننا، منشغلة تارة ببناء العش في ركن المرح، وتارة تغدو للغدير المجاور لتأتي بالطين والقش والطعم. مع نهاية الربيع يأتي طائر اليمام فيزرع الأمل في النفوس وينشد أغرودة الحُب والحَب على فروع زيتونة قديمة غرست في زمن مضى. تبني اليمامة أحلامها بالقرب منا، الحلم الذي يشبهنا، التوقيت الذي نستعد فيه كأطفال لنهاية الموسم الدراسي وبداية موسم الحصاد، والانصراف لصيد السمك أو لمزاولة التزحلق على جذوع الصبار اللزجة.
في هذا الوسط من حاضر ذلك الزمان، كان الإنسان يملك كل شيء، ولا يملك أي شيء في نفس الوقت؛ مشبع فقط بالمشترك الطبيعي والأحاسيس التي تتشابك خيوطها على طول اليوم. ينسج الفرد علاقاته داخل دائرة الجماعة التي تحكمها ساعة السماء “الساعةُ لله”، مؤمنا بالحق في الخلود وللأبد بعد الفناء مهمها عمر في الأرض؛ لا تهم الدقائق وإن مرت، فالاستمتاع في الساحة تتخلله نقيق الضفادع من الشروق لغروب الشمس.
أمسى للوقت ضوابط وقيم، فرغم صعوبة الامساك به إلا أن له رجالات ونساء يحرسونه، تعبر عنهم الذاكرة المحلية ب”موالين الوقت”؛ من الأولياء والصالحين و”الناس العقلاء”، أو “حراس الوقت« Les maîtres de l’heure » ، هم من أعيان المدشر، ومن نخب المدينة، يكتسبون وجاهتهم بالعلم، وبالمصاهرة من ” الدار الكبيرة”، تتوفر فيهم شروط الضبط والانضباط. الساعة يقتبسونها مباشرة من شعاع الشمس، من تقلبات البدر، تشبه توالي حركات المد والجزر. يتداول الوقت على شكل حكم أما الحاضر فشبيه بنجم يصلنا لمعانه، نستمتع بإشراقاته، حتى وإن كان النجم قد هوى واختفى. بعد هذا سيرتبط الوقت بالمال وستتشكل هيكلة جديدة، عبارة عن ” قيم جديدة ” للوقت times is money من خلال محاولة لفصل الساعة عن الطبيعة وعن قيم المجتمع التقليدي.
الفروج في المݣانة؟
بداية يقول الفيلسوف برغسون (1859-1941) معرفاً الوقت بأنه “قطعة سكر في حالة ذوبان داخل كأس”. قبل أن يعود برغسون ليمسك بأهمية الوجدان والحواس، كانت الشركات قد وصلتنا إنتاجاتها، وصلت للديار الماكينات الخاصة بضبط الوقت، روجت لها الشركات برسم الديك أو “الفروج” بين عقاربها الصغيرة والكبيرة، ربما لاستمالتنا. استأنسنا فعلا بهذه الساعات ” المنبهة ” ولو أن “الفروج” لا يشبه صياح ديك جارتنا رحمة، ولا ديكة حومتنا بالقرية. فبهذه الأخيرة عاشت جدتي، رحمها الله، مهووسة بحماية الدجاج من هجوم الثعالب؛ فكيف لأهالي القرية أن يقبلوا بفصل التوقيت عن ريتم الطبيعة؟ ويتقبلوا اختفاء الديك؟ فكل ما هو محلي تم ربطه بالأسواق العالمية بما في ذلك الوقت، فعزل الناس عن الإشارات الاجتماعية والزمنية بطابعهما التقليدي والطبيعي. كان على الجدة التي رحلت مرغمة للمدينة أن تتكيف مع الصدمة التي مهدت لتحولات شاملة كبرى بالانتقال من الزمن الزراعي لزمن المال والرأسمال. تحول متناقض مع القوانين الطبيعة، يبشر بالانتصار عليها، واخضاعها للزمن الآلي الصناعي الذي صار يشكك في العوالم التقليدية برمتها. أصبح مطلوب من جميع من مكثوا بالقرية ومن التحقوا بالمدينة تدبير الوقت باعتباره منفصلاً عن الطبيعة، متصل فقط ب “المݣانة” ومكانتها وهي تتوسط الساحة العمومية. الجدة ببصيرتها رفضت رؤيتها، لا تكن لها العداء، فقط لا تستهويها مشغولة بملكة الاستماع للآذان من طلوع الفجر لغروب الشمس. تقول عن زمن الفردانية هذا معبرة: “… زمن صحاب أراسي…أراسي.”
فإذا كان المستعمر مع مطلع القرن 20 قد قام باحتلال الوطن كتراب، قام كذلك بمحاولة لسرقة الزمن منا، جسد ذلك على الأرض بتخصيص معالم لتشييد الساعة العملاقة Horloge كأيقونة جديدة تؤشر لدخول مرحلة سميت ب “الحداثة”. فوفقًا لأوغست كونت ف” المجتمع هو في نهاية المطاف الخطة “، إنه يعكس العقلية التقنية العلمية السائدة في مرحلة معينة أملتها شروط التطور. ويصدق هنا قول عالم الأنثروبولوجيا الشهير لويس مومفورد (1895-1990)، إذ يعتبر بأن ” الآلة الرئيسية في العصر الصناعي الحديث ليست المحرك البخاري، إنها الساعة”، بحيث ستختزل تصوراً جديداً للوقت ولإيقاعات الحياة الاقتصادية والاجتماعية. فمدننا التي احتلها المستعمر ابتداءً من سنة 1912 تحولت بسرعة إلى فضاءات لإظهار قوة المجتمع الصناعي الأوروبي؛ مما يدل على عقلانية المخططين والمنظمين. فباختصار، دفعت نزعة الهيمنة المخططين، مع مطلع القرن الماضي، إلى تمييز وسط المدينة بهذا الرمز “الساعة الكبيرة”، امتداداً للتنظيم العلمي للعمل، ولثقافة الأداء التي قدمتها نظرية الإدارة العلمية، والتي تعززت تطبيقاتها العملية مع الفوردية التي ظهرت سنة 1908 على يد هنري فورد (1863-1947) مؤسس شركة فورد، كوسيلة للرفع من الإنتاج بأقل تكلفة، وفتح أسواق جديدة لتصريف الانتاج وجلب المواد الأولية، وبالتالي تحقيق الكثير من الأرباح.
يمكن استيعاب انطلاقا من نموذج ” المݣانة ” كيف فكر الغرب في فك ارتباط بنو جلدتنا بالسماء وبالمدنية العتيقة او البيت العتيق، بالترويج وقتئذ لخطاب ” قدرة الانسان على السيطرة على الطبيعة وترويضها “. وكما يوضح واحد من علمائهم وهو أوغست كونت مؤسس علم الاجتماع الحديث (1798- 1857): ” ليس من الممكن فهم وشرح ظاهرة اجتماعية معينة دون وضعها في السياق الاجتماعي العام الذي تنتمي إليه”. وتؤكد النظرية الماركسية بأن تقدم المعرفة هو بنية فوقية تعكس العلاقات الإنتاجية السائدة. فأصبح هكذا المعنى العام للرأسمالية مسكونا بالحيل والمصالح وليس بقيم الحرية، والأخوة، والتنوير الذي جاء بهم العصر الأنواري. فهل كان علينا إذا الاكتفاء بالنظر للساعة الحائطية والثقة فيها دون الحاجة لتوقيت الطبيعة وللموروث الثقافي؟ حقيقة من بعيد تصلنا دقاتها ورنين جرسها، أصبحت بدار الضمانة، جزءاً من المدينة، بل استطاعت ساكنة مدينة وزان، على غرار مدن أخرى، التكيف مع حضورها في قلب الساحة العمومية بشكل إيجابي، فتكيفوا على ما يبدو مع رموز الحداثة دون التفريط في الجوهر.
المݣانة بعد الفورديزم
دون الاستخفاف بأهمية “الحداثة” وما تختزله من مقولات التفكير العقلي، ودون تغليب الماضي على الحاضر أو الإقرار بعكس ذلك، فمن خلال الاصطدام العنيف داخل البيت الأوربي نفسه سيكتشف الغرب قبل الشرق بأن الساعة التي راهن عليها لفك الارتباط بالسماء وبالبيت العتيق لم تجدي نفعاً. وحتى المدن الغربية وإن اخترقها الخطاب والفعل الصناعي سرعان ما ستعرف انكماشاً وأزمة خانقة متكررة لم تنفع معها الحيل والاستراتيجيات الانتاجية. سيصاب أصحاب النزعة التحديثية بخيبة أمل، عندهم وعندنا، في وقت تعمقت جراح الذات منشطرة بين خطابين – التقليد والتحديث – ستصاب على إثرها ” المݣانة ” بعدة أعطاب ” السكتة “، فباتت لا تشتغل، صماء sans résonnance ، عمقتها دعوات لمنع استخدام العقل من أساسه، فبالأحرى تبديل قطع الغيار المفقودة. الأبعاد التقنية “للمݣانة”، في تمظهراتها الوظيفية والرمزية، لم تكرس القطيعة مع النزعات التقليدية، بل انتجت داخل المدن وضعا سماه (جان بودريار)، استناداً للمفكر المغربي نور الدين أفاية، ب” دينامية الخلط “، بين ما هو تقليدي وما هو حديث، ” بحيث يوظف الحديث لتكريس التقليد، أو يستخدم التقليد لتبرير استعمال الحديث”. فالتجليات العامة لما بعد الفورديزم القائلة بالمرونة والتكيف جعلت المنشآت الكبرى التي احتضنت الساعة بالفضاءات العامة وسط الحواضر، تستثمر في مجال التراث الذي سيؤدي لبعث الروح من جديد في “المݣانة”، باعتبارها تراثا ماديا من الزمن الكلونيالي. سيقول الحداثيون على لسان عالم الاجتماع يورغان هبرماس :”…مشروع الحداثة لم يكتمل بعد.” وبالتالي فالساعة بساحة المدينة لم ينته نشاطها بعد، ولن تتوقف عقاربها عن الدوران فهي من معالم المدينة، ولن تكون متعارضة مع القديم أو ضده.
عودة “المݣانة” للدوران هو إصرار المدينة لتجاوز النظرة العدمية لها واستبدال الرمزالاستعماري كعلامة في اتجاه غير وظيفي كما يقول عالم الاجتماعي الفرنسي (جان بوديار)، تفتح الفضاء العام للتفاعل مع الآخر والحوار معه على أسس الاحترام المتبادل وليس بغرض الهيمنة والسيطرة. سيعيد هبرماس الغرب لأخلاقيات النقاش، وهو المؤسس لنظرية “الفعل التواصلي”، في حين أدلى إيمانويل ليفيناس بدلوه في نفس الاتجاه بالقول بأهمية الوجه الآخر في التعريف بالأنا، محددا مسؤوولية الغرب اتجاه ما يقع للآخرين داخل أوربا نفسها وببقاع العالم.
خلاصة القول
تعود ” مݣانة ” دار الضمانة لتشتغل بعد تجاوزها للحالات الحرجة : حالة الاصطدام، ثم الأعطاب لحالة التصالح مع الذات في علاقتها بالآخر. لم تعد تختزل على ما يبدو عرض القوة، إذ انتقلت لنسج خيوط علاقات جديدة بحثا عن الاعتراف باعتبارها ساعة السلم والسلام. فباتت ” المݣانة ” معنية اليوم بإنتاج خطاب جديد أقرب لهوية بصرية تميزها عن باقي ساعات المدن مع الحفاظ عليها من الضياع لأنها جزء من الهوية المحلية للمدينة ومن ذاكرة أبنائها.
غيلان خالد